إمبراطورية اقتصاد الأدوية



في النصف الأوّل من القرن العشرين نظّم عمالقة صناعة المواد الكيميائيّة انقلاباً على مجال البحث الطبي المتمثل بمؤسسات الصحة والمستشفيات والجامعات الطبيّة ، وحققت عائلة روكفلرز Rockefellers هذا الإنجاز الشيطاني الكبير بواسطة تمويل ورعاية البحوث ومنح هدايا ماليّة للجامعات والكليّات الطبيّة في الولايات المتحدة ، حيث كان البحث مبنياً على أساس العقار (الدواء الكيماوي المخدّر) ثم وُسِّعت هذه السياسة لتشمل المؤسسات الطبيّة العالمية عن طريق مجلس التعليم الدولي.

أمّا تلك البحوث غير المبنيّة على أساس العقار الكيماوي المخدّر فكان تمويلها مرفوض، فتلاشت مع مرور الزمن ، حيث توجهت الجهود نحو المشاريع الدوائية الأكثر ربحاً ذات الأساس الكيماوي.

في عام 1939، تم إنشاء "اتّحاد احتكاري دوائي" بين إمبراطورية روكفلر الأمريكية وإمبراطورية أي. ج. فاربن I. G. Farben الألمانية ، بعد الحرب العالمية تم تفكيك شركة فاربن، لكنّها ظهرت فيما بعد على شكل شركات عديدة يجمع بينها اتفاق "الاتحاد الاحتكاري الدوائي"، وتتضمّن هذه الشركات: شركة الصناعات الكيميائيّة الإمبريالية ICI، وشركة بوردن Borden، وشركة كارنيشن Carnation، جنرال ميلز General Mills، شركة أم دبل يو كيلوغ M. W. Kellogg، نستله Nestle، بت ميلك Pet Milk، سكويب وأولاده Squib and Sons، بريستول ميارز Bristol Meyers، مختبرات وايت هول Whitehall، بروكتر وغامبل Procter and Gamble، روش Roche، هويتشت وبيير Hoechst and Beyer، ( شركتان دوائيّتان وظّفتا في البداية مجرمي الحرب المحكومين فريد ريتش جيهنFredrich Jaehne وفرتز تيرمير Fritz ter Meer كرؤساء مجلس إدارة). 

تمتلك شركة روكفيلر الآن بالتعاون مع مصرف تشيز منهاتن Chase Manhattan Bank ما يزيد عن نصف الأسهم الدوائيّة للولايات المتحدة ، وهي أكبر مجمّع لتصنيع الدواء في العالم ، منذ الحرب كسبت صناعة الدواء أرباحاً خيالية من جراء مبيعات الدواء، لتصبح ثاني أضخم صناعة في العالم بعد صناعة الأسلحة.

أما اليوم، في القرن الواحد والعشرين، فتتعلّق العناية الصحيّة للكائن البشري بمجال صناعة عملاقة تدرّ مئات المليارات من الدولارات على أصحابها، وهي ذات انتشار واسع في كل العالم (جميع سكان العالم تحولوا إلى استخدام الدواء الكيماوي) مع إنفاق متزايد من قبل المواطنين مما يزيد من الأرباح الخيالية بأيدي مصنّعي الدواء.

تسيطر هذه الشركات الآن على أغلبيّة مؤسسات الرعاية الصحيّة وهي التي تحدّد معايير ممارسة الطب في كل الدول المتطوّرة ، لم يعد الأطباء أحراراً في اختيار الصيّغ العلاجية الأكثر أماناً ووثوقاً، لكنّهم أصبحوا تحت رحمة اعتمادهم المالي التام على شركات الدواء الراعية والممولة لأبحاثهم (غالباً ما تأتي الأموال على شكل رشاوى).

بعد تخرّج الأطباء من المعاهد والكليات الطبية الممولة من قبل شركات الأدوية، يواجهون صعوبة في استيعاب الكم الهائل من الأدوية والعقاقير والمنتجات الصيدليّة التي تطرحها الشركات في الأسواق، والتي وجب على الطبيب فهمها ودراستها ثم استخدامها في علاجاته. إن الكم الهائل من المعلومات التي يحصل عليها الطبيب العام تأتي أساساً من بائعي الأدوية، وهذا ما أدى إلى الوضع الحالي حيث أن ثقافة هؤلاء الأطباء ضعيفة عن المواد الكيميائيّة التي يعطوها لمرضاهم، ويجمعون المعلومات بشكل أساسي بعد التخرّج من بائعي تلك الأدوية. أما نتائج هذا الوضع من الناحية الصحية، فهي مرعبة.

أصبح عدد المستحضرات الطبيّة المتوفرة في الأسواق ما يزيد عن 200.000 مستحضر. في عام 1980، أكّدت منظّمة الصحّة العالميّة أنَّ 240 نوع من الأدوية هي ضروريّة من أجل توفير رعاية صحيّة جيّدة في العالم الثالث. بينما في عام 1981 صرّحت منظّمة التطوير الصناعي التابعة للأمم المتحدة بأنَّ مجرّد 26 من هذه الأنواع تعتبر "ضروريات لا يستغنى عنها".

تعتمد الشركات الدوائيّة على سوء الصحة المنتشرة بين السكان لتحصد أرباحها. لا توجد لدى أي شركة دوائيّة اهتمام بشفاء المرضى. لدى الشركات اهتمام راسخ وواسع في الحفاظ على سوء الصحة وخلق أمراض جديدة وتصنيع المواد الكيميائيّة التي سوف تشجّع انتشار سوء الصحة تحت قناع "معالجة أعراض المرض" ونادراً ما يكون هو السبب الحقيقي للمرض.

يقول الدكتور جون بيرث ويت John Braithwaite عضو لجنة العمليّات التجاريّة، خلال فضحه للجريمة المنظمة القائمة في مجال صناعة الأدوية:

"الرشوة الدوليّة والفساد، والخداع الجاري في عملية اختيار الأدوية، والإهمال في التصنيع غير الآمن للدواء – كل هذا وأكثر يجعل من إمبراطوريات صناعة الأدوية تملك أسوأ سجل في خرق القوانين والخروج عنها" .

في عام 1978و في الولايات المتحدة دخل مليون ونصف شخص المستشفيات بسبب التأثيرات الجانبية للدواء فقط. وفي عام 1991، قتل 72.000 شخص في الولايات المتحدة بسبب سوء التشخيص ووصف الأدوية من قبل الأطباء. بينما مات ما قدره 24.073 ضحايا أسلحة ناريّة. مما جعل الأطباء أخطر من الأسلحة بنسبة تفوق ثلاثة مرات تقريباً. ولهذا تبعات خطيرة وتأثيرات هامّة على دول أخرى بما فيها بريطانيا لأنَّ أطباء الولايات المتحدة يعتبرون الرواد الأوائل في مجال الرعاية الصحيّة على المستوى العالمي، وما يحصل في عالم الرعاية الصحيّة في الولايات المتحدة ينفّذ عادةً في بريطانيا بعد عقد من الزمن.

لقد نجحت شركات صناعة الأدوية، في معظم أنحاء العالم، بنشر فكرة أنّ المرض هو جزء محتوم من الحياة، خاصّة في العقود الأخيرة. من خلال الشخصيات العلمية البارزة التي تمثله، قام النظام الطبيّ، وبشكل حاسم وفعّال، بالحدّ من مدى خيارات العلاج والرعاية الصحيّة التي يدركها العامّة من الناس، وتم توجههم نحو خيار واحد: "العقاقير الكيماوية الجاهزة".

من خلال التحكّم التام بالمنهج العلمي والتمويل الحصري للأكاديميات الطبية الرسمية، تبيّن في النهاية أن الصيغ والوسائل الطبيعيّة للعلاج قد تمَّ تجاهلها تماماً وجرّدت من حقها في البحث العلمي كما غيرها من الصيغ العلاجية الأخرى.

أما العلاجات التي تُظهر الأسباب الحقيقيّة للمرض وتبحث في تحسين صيغ فعّالة لمنع المرض مثل الطب الغذائي والمعالجة الطبيعيّة فتمّت مهاجمتها بشكل مستمرٍ في وسائل الإعلام، وصُنِّفت من قبل المنظّمات الدوائيّة على أنّها ضرباً من ضروب الشعوذة، وتم تكذيبها ودحرها من الساحة على يد حملات منظمة ممولة من قبل شركات الأدوية، كالحملة ضدَّ الاحتيال الصحيّ Campaign Against Health Fraud التي أصبحت تسمى الآن بمنظمة المراقبة الصحيّة Healthwatch.


وقد سوّقوا أيضاً فكرة أنَّ الشفاء نتيجة العلاجات الطبيعية التي استخدمت بشكلٍ ناجحٍ طوال قرون من الزمن هي عبارة عن "بدائل" ويجب أن تُعامل بشكٍ وحذر كبيرين. وغالباً ما يتم إبلاغنا (بواسطة أجهزة الإعلام المشبوهة بالإضافة إلى مصادر تعتبر نزيهة ورسمية) كيف تَضرّر أو قُتل شخص أو شخصان بسبب سوء تطبيق العلاج بالأعشاب من قبل أطباء مشكوك بأمرهم، ولكنّنا لم نعلم في نفس الوقت عن الآلاف الذين يتضرّروا بالأدوية التقليديّة التي تُوزَّع كالحلوى من قبل الأطباء. "الإعلام الموجّه" الداعم للدواء العقاري هو العنصر الفعال في هذه اللعبة.

بعد انتمائهم إلى الحقل الطبيِّ ذات التوجه الغربي، يتم تعليم الأطباء اليافعين الشباب على يد رؤسائهم "الحكماء" أنَّ العلاجات البديلة للطبِّ الغربي التقليدي هي مخادعة وشبيهة بالشعوذة. يعلمّوهم بأنّه لا يوجد دليل علمي يدعم أيًّ من العلاجات الروحية المختلفة، كالعلاج بالطاقة الحيوية مثلاً، وغالباّ ما ينتهي الحديث عن هذا المجال بضحكة وإشارة باليد تسخيفاً بالموضوع. وبعد ذلك يبدأ الطلاب بتلقي تلك الكميات الهائلة من الدراسات والأبحاث والمعلومات المصممة خصيصاً لصالح شركات الأدوية، ثم الدروس العملية "اللاإنسانية" التي يطبقونها على جثث الأموات، حيث يستوعبون من خلال هذا كله وجهة النظر المتحيّزة لمعلميهم الأطباء الروّاد.

ليس للطبيب الشاب أي وقت للخروج عن حالة الأرق التي يعاني منها خلال مرحلة التعلّم الصعبة والمرهقة، فماذا لو قلنا محاولته البحث عن أساليب بديلة للعلاجات التي يتعلمها؟. هذه الطريقة في غسيل الدماغ متبعة في معظم المنظمات العقائدية التي تعمل على قولبة عقول أتباعها إلى نظام اعتقادي وحيد ليس له بديل. التكتيكات الرئيسية هي: المحافظة على حالة قلة النوم والتي تقلل من مقاومة الفرد للتعاليم، الانعزال عن العالم الخارجي إلى درجة يصبح فيها الشخص يأكل، يتنفس، وينام على التعاليم. بالإضافة إلى عامل مساعد يتمثّل بحالة الخوف من الفشل، وهذه الحالة تتفاقم عندما تكثر فترات الامتحانات والفحوص التي تتخلل مرحلة التعليم.


يبدو واضحاً أن النظام الطبي الغربي أصبح عبارة عن نظام عقائدي متزمّت مشابه تماماً للأديان المنظمة. هذا النظام ينشئ المنتمين إليه على عقيدة موجّهة ومحددة بحيث يتم انتزاع التفكير الحر والمنطقي من جوهر الفرد ويستبدله بأفكار موجّهة تخدم مصالح النظام لتساعده على البقاء. فهذا النوع من الأنظمة يعمل على غرس "الخوف من الفشل" في أتباعه، وبالمقابل، يستفيد من الميول الطبيعية لـ "عمل الخير ومساعدة الآخرين " الكامنة في جوهرهم. وبنفس الوقت، نرى أن الذي يقبع على قمة هرم هذا النظام الصحي ليس أطباء أو معالجين، بل شركات صناعة الأدوية المتعددة الجنسيات، والتي هي ليست موجودة من أجل خدمة الإنسانية بل من أجل المال والسلطة. وخلفهم، وراء الستار، تقبع المنظمات والمجموعات والمحافل السرّية المسيطرة على العالم.


يعتبر النظام الطبي بين الشعوب رمزاً للخير والإنسانية في الوقت الذي يمارس فيه القائمين عليه (الذين في قمة الهرم) كل أساليب الشعوذة والمكر والخديعة من أجل المال والسلطة والنفوذ، ولا يهمهم كم من الضحايا التي خلفوها خلال سيرهم نحو تحقيق أهدافهم.


دمتم في وعي و صحة دائما.